بعد أسبوع واحد من فوزه فى الإنتخابات الرئاسية الأميركية فى تشرين الثاني/ نوفمبر2016، تعهد ترامب بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، حين قال "هذه هى صفقة القرن، وأنا كصانع صفقات، أود أن أعقد هذه الصفقة التى صعبت على الجميع من قبل، وأود أن أنجز هذه الصفقة من أجل البشرية جمعاء".
صفقة القرن، اسم جديد لقضية مرت عليها ألاعيب ومؤامرات كثيرة بأسماء مختلفة لتصفيتها وإزالة فلسطين من الجغرافيا والتاريخ. فكل رئيس أميركي جديد يجتهد أكثر من سلفه، لخطب ود الحركة الصهيونية، وتقديم كل ما يلزم للكيان الصهيوني من أجل مصالحه ومصالح إدارته وأهدافها في المنطقة العربية، وإبقاء خطوط التوتر الساخنة أو الباردة بما يتناسب ومصالح الإمبريالية الاستعمارية، منذ وعد بلفور إلى مشروع ايزنهاور وحلف بغداد. ومن وعد بوش الابن بالدولة القومية اليهودية، لغاية، تعهد ترامب بصفقة القرن المتمثلة في إنهاء القضية الفلسطينية وتقديمها هدية إلى الكيان الصهيوني وفق خطة مشروع " الشرق الأوسط الجديد".
في الجانب العملي، يمكن القول أن بعض بنود صفقة القرن سلكت طريقها للعلن، بعد أن بدأت بقرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترافه بها كعاصمة أبدية للكيان الصهيوني في 6 كانون الأول عام 2017، وما شكله هذا القرار من خطورة حقيقية تكمن في محاولة إخراج القدس من "الصفقة" ومن "المفاوضات". ثم تلى هذا القرار مباشرة وقف دعم وكالة غوث اللاجئين (أونروا)، بمعنى عدم الاعتراف باللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم، في محاولة لنسف قرارات الأمم المتحدة. بعدها تم إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
لم يكتف ترامب بهذه القرارات، بل يسعى لإكمال ترتيب صفقتة التجارية التاريخية باعتبارها صفقة العمر للمسعى الإمبريالي الأميركي لحل المسألة الفلسطينية نهائياً وجذرياً، معتقدأ وفق عقليته الرأسمالية – التجارية أن المال يحل الُعقد، ومن هذه الُعقد القبول الفلسطيني بالاحتلال الصهيوني والتنازل له عن كل شيئ: الأرض، التاريخ، الشهادة والصمود، حق العودة وحلم التحرير، والموافقة على البدائل المطروحة من أراضي مصرية وأردنية لإقامة مخيم فلسطيني وعاصمته "أبو ديس"، وتوطين اللاجئين في بقاع العالم.
الصفقة ليست جديدة، قد تكون تسميتها انطلقت مع ترامب. لكن لنعود إلى عام 1996 حين رفع الصهيوني شيمون بيريز شعار" العقل الإسرائيلي والأموال العربية يصنعان المعجزات" لترويج دعوته إلى شرق أوسط جديد أثناء زيارته إلى ُعمان والتي تزامنت مع ارتكاب الصهاينة مجزرة "قانا" في جنوب لبنان واستشهاد أكثر من مئة طفل داخل مقر الكتيبة الفيجية التابعة للأمم المتحدة. هذا هو العقل الصهيوني.
وهذا ما جرى أيضاً مع الصهيوني نتنياهو في ختام جولته العربية الأخيرة بين مصر والأردن في ُعمان لنفس الغرض، والتي تزامنت أيضاً مع ارتكاب العدو الصهيوني لمجازر ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
الحديث يطول حول تزامن تمرير الصفقات وآخرها صفقة القرن مع التقارب الصهيوني – الرجعي العربي وإقامة علاقات تطبيعية وطبيعية بينهم، ما قبل كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.. وما بعد هذا الانفتاح التطبيعي العربي - الخليجي الأخير، والزيارات العلنية المتبادلة، التي تأتي تتويجاً لمجموعة تطورات وأحداث خطيرة شهدتها المنطقة منذ الاحتلال الأميركي للعراق، وتقسيم السودان، وإيقاظ الإرهاب، وإغراق المنطقة بالحروب والفوضى والأيديولوجيات الطائفية والمذهبية..الخ. وهي التطورات التي استفاد منها العدو الصهيوني للتملص من أي اتفاق أو التزام كان قد وعد به تجاه من حاول تعميم ثقافة المفاوضات والاستسلام في أوسلو. هذا، عدا عن إعدام المبادرة العربية للسلام التي تنص على "إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 4 حزيران عام 1967 وحق عودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان السورية العربية المحتلة، مقابل الاعتراف وتطبيع العلاقات.. فما جرى ويجري من مفاوضات وتنازلات وتطبيع سياسي ودبلوماسي وتجاري وسياحي مع العدو الصهيوني شكلت بمجموعها الأطباق الطيبة التي فتحت شهية وحش الرأسمالية ترامب لالتهام القضية الفلسطينية، والعزم على عقد صفقة القرن لاستعادة الخسارات الأميركية الأخيرة المتتالية في العراق وسوريا ولبنان.. وتعثر ما لمشروع الشرق الأوسط الاستعماري الجديد.
يقول جاريد كوشنير وهو صهر ترامب، وعراب صفقة القرن: "نرى في الصفقة خطة واقعية يمكن تنفيذها من أجل حل المسألة الفلسطينية". لقد سخر كوشنير وعمه ترامب ومعهما فريق متأصل في صهيونيته من "مبدأ الأرض مقابل السلام"، وقاموا بحرقه، وراحوا يبحثون عن الأشياء التي تهم من وجهة نظرهم "معيشة الفلسطينيين" لتنفيذ هذه صفقة. وتوصلوا بعد التدقيق أن الصفقة تصيب عدة "خواريف" بحجر واحد، وهي: أ- شفط بيوت المال في السعودية والخليج. ب- تمتين العلاقات العربية – الإسرائيلية . ج- إنهاء القضية الفلسطينية. د- إضعاف المنافسين الدوليين والأقليميين في المنطقة.
لذلك، رغم التعتيم على بنود الصفقة، إلا أن ما رشح منها يفيد بأنها خالية من كلمة احتلال اسرائيلي، ونظيفة جداً من تضمين حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وفي تأكيد حقوقه السياسية المشروعة وفي حق العودة... أما الأبرز فيفيض بالإغراءات المالية والاستثمارات وبناء البنى التحتية وتحسين الاقتصاد ومعيشة الفلسطينيين والوعد بحياة وردية جميلة في نعيم التسول والشحادة والامتنان لهذا الملك أو الأمير أو الشيخ.
على هذا الأساس، يأتي مؤتمر"السلام من أجل الازدهار" في آخر هذا الشهر الحالي في المنامة عاصمة البحرين. سلام وازدهار في زمن القهر الإمبريالي، والتشتت العربي، والتطبيع العربي الرجعي، والتمزق الفلسطيني، والشفط الترامبي لأموال الخليج مقابل الحماية لتثبيت مواقع المماليك والمشيخات، وعلى وقع حصار إيران وتهديد لبنان وتسعير الوضع في سوريا واليمن و ليبيا والسودان، وعلى وقع الخوف الأردني والرفض الفلسطيني الكامل لفرض الصفقة التي تقدر كلفتها حوالي ٢٥٠٠ مليار دولار، تؤمن الأغلبية الساحقة منها السعودية والإمارات وباقي دول الخليج بالإضافة إلى اليابان وأوروبا.
"صفقة القرن" معروضة في مزاد بيع القضية الفلسطينية وشراء ذمم خونة القضية والعروبة والكرامة الإنسانية. يبدأ المزاد باسم السلام من أجل الازدهار كحل إمبريالي – صهيوني وحيد متاح لمعالجة القضية الفلسطينية، هذه القضية التي باتت برمتها على المحك، إن عقدت ورشة عمل البحرين (الفاشلة) في موعدها، أو تأجلت بسبب أزمة نتنياهو الذي يُخشى أن تتقلص حظوظ فوزه بالانتخابات القادمة جَرَّاء معارضة بعض الأحزاب الأكثر تطرفاً وإرهاباً منه، ومن حزبه الراغبة في ضم الضفة إلى الكيان الصهيوني تحقيقاً للحلم التوراتي – الصهيوني بإقامة "إسرائيل الكبرى".
صفقة ترامب تستهدف فلسطين كما تستهدف المنطقة برمتها. ابتداء من محاولة تثبيت هيمنة الإمبريالية الأميركية عليها، ونهب النفط والغاز المكتشف فيها، وإزالة القضية الفلسطينية من الطريق لبناء حلف أميركي – صهيوني – رجعي عربي متين بأموال عربية لمواجهة ما يسميه الإمبريالي الخطر الايراني، وانتهاءً بخلفيتها التي تستهدف أيضاً وقف تقدُّم روسيا والصين كقوى دولية، وإيران و تركيا كقوى إقليمية وتعويم الدور السعودي ومن خلفه المصري، بعد أن ثبت بالملموس تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وفك فردية قطبيته، باتجاه تعددية قطبية عالمية وتعددية إقليمية تزاحمه وتقف عائقاً أمام زحفه. وهو الساعي لخوض معركة تجديد ولايته الرئاسية والسير قدماً في شعار حملته الانتخابية الأولى "أميركا أولاً"، ومواقفه اليومية المريخية.
الصفقة الترامبية تحاول أن تنفذ من خلال قراءة أميركية لواقع حال المنطقة ومشاكلها وأزماتها، لكنها قراءة فوقية ومنقوصة. لم يفهم ترامب وفريق الطباخين عنده مثلاً أن يقرأ معنى مقاومة الشهيد "عمر أبو ليلى"، وقوة الطفلة "عهد التميمي"، وصمود "أحمد سعدات ومروان البرغوثي ورفاقهم" المعتقلين في السجون الصهيونية. ولم يتعظوا بعد من مقاومة الشعب الفيتنامي واللبناني على سبيل المثال لا الحصر لذلك. لم يفهموا بعد الغليان الشعبي الفلسطيني، والرفض الوطني السياسي الفلسطيني للصفقة الافتراضية المرفوضة من قبل الشعب الفلسطيني وفصائله على اختلاف أطيافهم السياسية. وهنا ندرك أن الموقف الفلسطيني الجامع الموحد يشكل نقطة البداية لكسر الصفقة الترامبية واستعادة وهج القضية عبر تعزيز هذا الموقف بالخطوات العملية التالية:
- العمل لتمتين الوحدة الفلسطينية كقاعدة أساسية في مواجهة صفقة القرن وغيرها من صفقات تحاول النيل من القضية الفلسطينية.
- الإعلان الصريح عن موت اتفاق أوسلو من غير رجعة.
- وقف كل أشكال التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني المحتل.
- إحياء دور منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية أساسية للثورة الفلسطينية.
- العودة إلى رسم استراتيجية وطنية فلسطينية، تقوم على قاعدة تشكيل جبهة مقاومة وطنية فلسطينية لتحرير فلسطين بعاصمتها القدس.
إن إعادة ترتيب البيت الفلسطينيي ووضوح الرؤية والمشروع والموقف من شأنه أن يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، ويعيد فرضها كقضية مركزية، تتقدم ملفات المنطقة كافة، للمساهمة في إسقاط صفقة القرن وتوجيه صفعة القرن إلى الإمبريالية الأميركية والصهيونية والرجعية العربية، كمقدمة للقضاء على أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد.
لقد استطاع الشعب الفلسطيني أن يبرهن بصموده ومقاومته وانتفاضاته وتضحياته من جيل إلى جيل أنه شعب حي، صلب، مقاوم، متجذر في أرضه، متمسك بهويته وحقوقه الوطنية كاملة، لا تلغيه جدران ولا حيطان، ولا تحبط من عزيمته حصارات أو إبعاد أو جوع، ولا تردعه حواجز العدو الصهيوني وأمنه وعملائه من ممارسة حقه المشروع في المقاومة، والأهم أنه صاحب حق لا يتنازل عنه، يؤمن بالسلام لا بالخضوع والاستسلام.
لذلك، يقاوم هذا الشعب كما الشعوب العربية "باللحم الحي" و" الأمعاء الخاوية" و"بحجارة وقبضات الأطفال" لتحقيق حلمه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس. لكن هذا الشعب المقاوم يفتقد لمشروع وطني فلسطيني كجزء من مشروع حركة التحرر الوطني العربية، وإلى قيادة ثورية تقود مشروع المواجهة لاسقاط صفقة القرن وكل أهداف المشروع الإمبريالي الاستعماري الجديد والقضاء عليه.
إنها مهمة وطنية وطبقية لليسار ولقوى التحرر والديمقراطية الوطنية الفلسطينية والعربية.. فهل نفعل؟!
*كاتب سياسي من لبنان